ترقيع بورو الياباني

في كل حقبة من الزمان و كل بقعة من الأرض يوجد نسيج يحفظ بين خيوطه أحداث و فلسفة و تاريخ تلك الأرض و من سكنوها و ماضيهم بحلوه و مره.

ترقيع بورو - و الذي يعني ممزق و رث - هو أفضل مثال على ذلك. في القرن التاسع عشر و القرن العشرين، كانت اليابان تمر بأزمات اقتصادية قبل الثورة الصناعية، جعلت من القماش ترف لا يقدر عليه أغلب الشعب. لذا كان من الضروري الحفاظ على الملابس و إستدامتها و توارثها جيل بعد جيل. فصار الرتق و الترقيع عادة عند الناس.



لنتخيل مزارع يعمل في حقله و أثناء عمله تمزق كم قميصه. بعد أن يعود إلى المنزل، تقوم زوجته برتق القميص برقعة صغيرة من القماش و غرز عشوائية سريعة، فلا يوجد عند هذا المزارع إلا هذا القميص. يتكرر الأمر و يتكرر الرتق و الترقيع. صار القميص الآن مغطى بالرقع. يتوفى المزارع و يرث الإبن قميص والده المرقع و يواصل العمل في الحقل و يحدث معه ما حدث لأبيه. مع الوقت و كثرة الرتق و الترقيع و توارث الملابس جيل بعد جيل، لا يستطيع الناظر تمييز قماش القميص الأساسي و الذي إهترأ و إختفى تحت الرقع و الخيوط.

هذه هي خلاصة ترقيع بورو الياباني: إطالة عمر الملابس و الألحفة عن طريق الرتق المستمر و إستغلال كل قصاصة من القماش مهما صغر حجمها للحفاظ عليها للأجيال القادمة. فترقيع بورو إذاً لم ينشأ لخلق شيء جديد، بل للحفاظ على الشيء القديم.



مع مرور الزمن و تبدل الأحوال، تغير العالم ، سهل إنتاج القماش و صار ثمنه في متناول الجميع. تحول عندها ترقيع بورو إلى شيء من الزمن الماضي. و مر بفترة كان فيها غير مرغوب بل منبوذ لأنه مرتبط بالفقر و العوز. و لكنه يعود اليوم مع زيادة الوعي البيئي و يتحول إلى فن. فالرقع ذات الخيوط المنسلة و الغرز اليدوية البارزة الملموسة لها القدرة على جذب العين و تدفع الناظر للتأمل بالعمل.

ترقيع بورو نشأ لحاجة، ثم إندثر و اليوم يعود للواجهة بقوة كفن و فلسفة.

لإهتمامي بثقافات الشعوب الأخرى مع فن النسيج و لحرصي على إستغلال قصاصات القماش التي تبقى من أعمالي في الخياطة و الترقيع، قمت بتجربة ترقيع بورو و شاركتكم التجربة على قناة أستوديو درزة على اليوتيوب .



أيضاً، و لأننا في عصر السرعة و المكاين، جربت ترقيع القصاصات مرة أخرى و لكن بدل الغرز اليدوية، خيطت القماش الجديد على الماكينة. شاركت ذلك أيضاً على قناة اليوتيوب.



في هذا الترقيع وجدت قصاصات القماش حياة جديدة بشكل جديد و خارج عن المألوف. عندما نشرت المقطعين على اليوتيوب، إكتشفت أن أغلب الحرفيات و الهاويات مثلي، نتعلق بكل قصاصة تبقى عندنا من أي مشروع و لا نستطيع التخلص منها بسهولة. كما أن هذا الأسلوب و عشوائيته و فوضويته، أعطتنا الحرية من تعليمات الباترون و من الترتيب و الدقة التي نحرص عليها مع كل مشروع. و هذه الحرية ستكون بوابة الكثيرين للإبداع و التجديد.

راوية / درزة

التعليقات

لا يوجد أي تعليقات لعرضها.

تسجيل الدخول